الفكر الإسلامي

 

 

وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا

 

بقلم : أسامة نور القاسمي

الباحث بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة دهلي

 

 

 

 

        كلُّ نعمة من نعم الله تعالى تقتضي أن يفكر فيها الإنسانُ، يفكر في أصلها وطريقة حفظها وتنميتها كما تقتضي أن يشكر الله عليها، شكرًا لا يخالطه رياء ولا كبرياء، شكرًا خالصًا للمنعم تعالى، شكرًا يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، ليس هذا فحسب، بل علينا أن ندرك أسرار نعم الله وهي تشمل خلق الإنسان، وما استودع الله إيّاه من عجائب صنعه، بالإضافة إلى خلق الكون وما فيه من آلاء الله ونعمه، وقد ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، ودعانا إلى التفكّر فيها حتى ندرك أسرارها وقيمتها وأهميتها، وحتى نعقل كيف سخّرها كلها للإنسان ليكون خليفةَ الله في الأرض.

     الخلق الأول خلق الله آدم من تراب الأرض ومن مائها، ومرّ بمراحل الطين ثم الصلصال ثم الحمأ المسنون، ثم كانت التسوية والتصوير على الشكل الآدمي، وأما الخلق الثاني وهو ما يجري في القرار المكين الذي هو رحم المرأة، ففيه تلتقي نطفة الرجل مع نطفة المرأة وتتحول بعد ذلك إلى قطعة دم لِزَجٍ هي المضغة، وتتوالى عمليّةُ النموّ لتأتي مرحلة العظام، وبعد ذلك تُكْسَىٰ العظام اللحمَ، إلى أن تأتي عملية الولادة، ويأتي المولود مُتَلَبِّسًا بنعم كثيرة صادرًا عن نعم كثيرة، ومما يتلبس به من النعم، نعمة العقل ونعمة الهداية. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلٰلَةٍ مِّنْ طِيْنٍ(12) يُمَّ جَعَلْنٰهُ نُطْفَةً فِيْ قَرَارٍ مَّكِيْنٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْـمُضْغَةَ عِظٰمًا فَكَسَوْنَا الْعِظٰمَ لَحْمًاق ثُمَ اَنْشَأْنٰهُ خَلْقًا آخَرَط فَتَبٰرَكَ اللهُ اَحْسَنُ الْخٰلِقِيْنَ(14) سورة المؤمنون.

     لم تكن نعمة الخلق مقصورة على إيجاد الإنسان من العدم؛ ولكنها تشمل أيضًا الكونَ الذي يعيش فيه الإنسان، فهناك خلق الكون بسماواته وأراضيه، ومياهه وأنهاره، وكذلك خلق الحيوان والنبات والفواكه والثمار، قال تعالى: ﴿فَاَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنّٰتٍ مِّنْ نَخِيْلٍ وَّ اَعْنَابٍم لَكُمْ فِيْهَا فَوَاكِهُ كَثِيْرَةٌ وَّمِنْهَا تَأْكُلُوْنَ﴾ المؤمنون/ الآية:19. وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِيْ الْاَنْعَامِ لَعِبْرَةًط نُسْقِيْكُمْ مِّمَّا فِيْ بُطُوْنِه مِنْم بَيْنِ فَرْثٍ وَّ دَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشِّرِبِيْنَ (النحل/ الآية:66.

     ومن نعم الله الغالية العالية التي لا تُقَلَّد بقيمة نعمة الإيمان بأصوله وأركانه، يتملّأ قلبُ الإنسان به وتُصَدِّقُه جوارحُه وأعمالُه، فتكون حياتُه كلُّها خيرًا وأمانًا وسعادة، والإيمان الوعاء الجامع والإطار الشامل الذي يدرك به الإنسان فلسفةَ وجوده في الحياة؛ فهو يعرف ربَّه وخالقَه ويفهم الغايةَ التي جاء لأجلها إلى الدنيا ويطمئن قلبه، ويسعد ضميره، وبنعمة الإيمان يعرف الحقوق والواجبات والحلال والحرام. ومن فضل الله ورحمته الواسعة أنه تعالى يَسَّر نعمة الإيمان لجميع الناس؛ فهم يولدون عليها ويحصلون عليها دون عناء واجتهاء منهم، وأرسل الرسل مُبَشِّرين ومُنْذِرِين للدعوة إلى الخالق وأنزل الكتب السماويّة؛ لتكون شريعةً للناس وهدايةَ إلى الحق ومنهاجًا لهم. وللإيمان أركان يقوم بها، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه من الله الغني القدير. وله أعمال تدل عليه وتزيد فيه، وهي نعمة الوضوء والصلاة ونعمة الزكاة ونعمة الصيام ونعمة الحج ونعمة الدعاء، ويزيد الإنسان بهذه النعم في تزكية وترقية أخلاقه الإسلامي واستقامة عمله على المنهج الإسلامي.

     ومن نعم الله تعالى النعم الخاصة التي أنعم بها على كل إنسان في ذاته بقَدَر، فنعمة الصحة وحدها من النعم مالا تستطيع نفس بشرية أن تدركه، ونعمة الأمن من النعم الأساسية التي مَنَّ الله بها على عباده، ونعمة المال وهو نعمة حقيقية إذا التزم الإنسان بآداب طلبه وتَحَلَّىٰ بالقناعة وتَحَرَّىٰ الكسب الحلال، وتجنب النجل والإسراف؛ وأحبّ الإنفاق في سبيل الله تعالى، وكذلك ونعمةُ الوقت والقدرة على الاستفادة منه توقف الإنسان أمام مرور الزمن الذي يسرق عمرَه وهو لايدري، ونعمةُ العلم بها تقوم عمارةُ الأرض، ونعمةُ الزوجة الصالحة حسنةُ الدنيا وخيرُ كنزها ومصدرُ العطاء والراحة والسعادة للأسرة كلّها، والذريةُ الصالحة قُرَّةُ عين للأبوين وامتداد لهما بعد موتهما.

     ومن يتأمل جيدًا في نعم الله تعالى يدرك أن اللسان يعجز حقًّا عن العد والوصف؛ لأن في كل نعمة منها نعمًا لاعدَّ لها ولا حصر، والعقلُ غيرُ قادر على إدراكها، والخيالُ لا يستطيع الإحاطةَ بها، ومن هنا شكرُ النعم واجبٌ على كلّ الناس، هكذا قضى ربّنا تبارك وتعالى، أما إنكارها أو إنكار قدرة الله فيها فيفتح على الإنسان بابَ النقم والعذاب في الدنيا قبل الآخرة، والإنسان العاقل يحذر تغيّر حالة النعمة ويخشى من السلب بعد العطاء، وفي الحقيقة إن الشكر على النعمة دليل استقامة النفس البشرية، وعندما يشكر الإنسان ربه على نعمة يراقب ربه في تصرفاته في هذه النعمة فلا يكون منه إنحراف أو ميل وشذوذ عن الطريق السوي.

     إن التحدث بنعمة الله وفضله صورةٌ من صور الشكر لله على نعمه التي لاتعد ولا تحصى، وفي نفس الوقت بحب على الإنسان أن يحذر الرياء في الشكر، فإن الرياء يمحق كل خير، إن شجرة النعمة كبيرة، أغصانها كثيرة وظلالها وارفة، كثيرة الثمار والأوراق والأزهار، وتظل كذلك إذا استمرت العناية بها وسقايتها وحمايتها، فسقايتها إيمان يزداد يوما بعد يوم، وحمايتها ابتعاد عن المعاصي والموبقات. والله هو الموفق، وهو المستعان، وعليه التكلان، ولاحول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، رمضان – شوال 1434 هـ = يوليو - سبتمبر 2013م ، العدد : 9-10 ، السنة : 37